التوبه
نيافه الانبا رافائيل
6
عوامل عديدة تشابكت لتفسد الفكر الأرثوذكسى الآبائى من جهة حياتنا مع الله وعلاقتنا به ، ولعل أبرز هذه العوامل « النزعة الفردية فى الخلاص » التى يتبناها المنهج البروتستانتى أو كذلك « النسكيات المتطرفة » التى كانيتبناها المنهج الكاثوليكى الغربى ، ولعل أهم الموضوعات التى أصابها الغموض والانحراف موضوع « توبتنا «، وأزعم أننى أستطيع تلخيص ما يدور بذهن الشباب من جهة التوبة فى هذه النقاط
1- أن التوبة هى رجعة حاسمة عن الخطية يعقبها قداسة السيرة بدون سقطات .
2- أن الرجوع للخطية بعد الاعتراف معناه أن توبتى لم تكن حقيقية وهى غير مقبولة .
3- أن ارتباطى بالمسيح يستلزم قداسة السيرة .. وهذه القداسة تحتاج مجهوداً عنيفاً واستمرارية فى عدم الخطأ . 4- بما أننى - عملياً - لا أستطيع ألا أخطئ ، وليس لدى مقدرة على السلوك فى نسكيات عنيفة .. لذلك فإما أن : صديقى الشاب .. لعلك توافقنى فى هذا الزعم .. ولكن دعنا الآن نتلمس مفهوم التوبة فى ضمير الكنيسة كما صاغته فى نصوص الليتورجيا ( القداس (.. لعلنا نخرج منه بتحديدات تنير أمامنا الطريق فيسهل ، ولنبحر معاً فى أعماق أنهار القداس الإلهى إذ أن القداس - فى الحقيقة - يحوى منهج توبة متكامل بفكر أرثوذكسى أبائى أصيل .. لأول وهلة سنلحظ أن : أ- أعيش بقلبين أحدهما يليق بالكنيسة ويكون لى صورة التقوى فيها دون قوتها . والأخر يليق بحياتى الخاصة وبالعالم وأوافقه على كل انحرافاته . ب- أو أنه لا فائدة ولنترك الكنيسة لمن يستطيع ، أما أنا « فلنأكل ونشرب لأننا غداً نموت «. أن : 1- التوبة هى عمل مستمر ومتكرر ومدى الحياة :
يبدأ الكاهن القداس بصلاة سرية يرددها أثناء فرش وتجهيز المذبح فيقول « أيها الرب العارف قلب كل أحد ، القدوس المستريح فى قديسيه . الذى بلا خطية وحده ، القادر على مغفرة الخطايا . أنت يا سيد تعلم أننى غير مستحق لهذه الخدمة المقدسة التى لك ، وليس لى وجه أن اقترب وأفتح فمى أمام مجدك المقدس ، بل ككثرة رأفتك اغفر لى أنا الخاطئ وامنحنى أن أجد نعمة ورحمة فى هذه الساعة وأرسل لى قوة من العلاء .. الخ «.
تأمل كيف تنضح هذه الصلاة بالتوبة والانسحاق والشعور بالخزى بسبب كثرة الخطايا .. ومن الذى يقدمها ؟ أنه الكاهن المحسوب فى ضمير الكنيسة أنه شفيع فى المذنبين أمام الله .. ثم يستمر الكاهن فى تقديم توبة عميقة منسحقة طوال القداس حتى يختمه بهذه الصلوة قبل التناول : ».. لا تدخلنا فى تجربة ، ولا يتسلط علينا كل إثم ، لكن نجنا من الأعمال غير النافعة ، وأفكارها وحركاتها ومناظرها وملامسها ، والمجرب أبطله ، واطرده عنا ، وانتهر أيضاً حركاته المغروسة فينا ، وأقطع عنا الأسباب التى تسوقنا إلى الخطية ، ونجنا بقوتك المقدسة .. الخ » أنك تستطيع أن تلمس روح التوبة المتغلغلة ليست فى هذه الصلوة فقط بل فى كل صلوات القداس الإلهى ، وكأن القداس قد وضع فقط للتائبين ، ما يعنينى هنا أن :
1- استمرار صلوات التوبة طوال القداس إنما يشير إلى ضرورة استمرارية التوبة فى حياتنا .
2- أن يبدأ القداس وينتهى ، معناه أن التوبة هى عمل يستمر مدى الحياة ، منذ أن أدرك ذاتى وحتى الانتقال إلى السماء .
3- تكرار القداس يومياً بنفس النمط ونفس الصلوات يدل على أن التوبة - فى ضمير الكنيسة - هى عمل متكرر يومياً ، فلو كانت التوبة هى مجرد مرحلة يعقبها قداسة بدون سقطات ، لصار فى الكنيسة نوعان من القداسات أحدهما للمبتدئين التائبين ويكون مليئاً بعبارات التوبة والانسحاق ، والآخر للمتقدمين القديسين ( الذين لا يخطئون ) ويكون مليئاً بالحب والتسبيح والفرح ، ولا مجال فيه للتوبة والانسحاق . إننا نتطلع أحياناً إلى يوم نتحرر فيه تماماً من الضعفات والسقطات ونعيش القداسة فى ملئها وبهجتها وعندما يتأخر هذا اليوم نصاب بالإحباط واليأس والفشل .. غير عالمين أنه سيأتى ولكن فى الدهر الآتى .. أما فى هذا الدهر فإننا فى زمان التوبة والنمو لذلك فالكنيسة الملهمة رتبت
لنا توبة فى كل يوم حاسبة فى ضميرها إننا ضعفاء ساقطون لأنه « ليس عبد بلا خطية ولا سيد بلا غفران » مرد إنجيل الصوم الكبير . ليست الكنيسة مكاناً للقديسين فقط ، ولكنها مستشفى للتائبين أيضاً . إننا ندخلها خطاة فى كل يوم فتبررنا بدم المسيح الذى تستجلبه لنا بالتوبة والاعتراف والحل .. لاحظ هذا الحوار الذى يدور بين الكاهن والشماس والشعب فى نهاية كل صلاة طقسية ( خاصة القداس (. يقول الشماس : احنوا رؤوسكم للرب ( وهى دعوة للتوبة والاعتراف السرى أما المسيح فى حضور الكنيسة كلها (. يرد الشعب : أمامك يا رب أى ها نحن أمامك منحنين معترفين بذنوبنا وآثامنا وميولنا الرديئة . يقول الشماس : ننصت بخوف الله ( مشيراً إلى قرار خطير سيصدر بعد قليل يجب أن ننصت لنسمع بمخافة (. يقول الكاهن : السلام للكل ( أى أن هذا القرار الخطير سيحمل سلاماً للكنيسة كلها (. يرد الشعب : ولروحك أيضاً . ثم فى هدوء وصمت عميق يحنى كل مصلى كالأسلة رأسه ويقرع صدره ويعترف أمام الله بخطاياه .. والكاهن كذلك يتوب عن نفسه وعن الشعب ثم يقرأ عليهم التحليل . لاحظ أن : توبة + اعتراف + تحليل = غفران وهذا يدفع الشماس لأن يصرخ ( خلصت حقاً ومع روحك أيضاً ) شاهداً للكاهن والشعب أن خلاصنا قد حضر بسبب الغفران .. فيفرح الشعب ويتهلل ويصرخ بنغم الفرح قائلاً :
آمين كيرياليصون كيرياليصون كيرياليصون وفى القداس خاصة يكمل الكاهن الحوار قائلاً : القدسات للقديسين ( أى هذا الجسد والدم يأخذهما فقط القديسون التائبون الآن ) فتصرخ الكنيسة بانكسار ووداعة : واحد هو الآب القدوس ، واحد هو الابن القدوس ، واحد هو الروح القدس ( معترفة بذلك أن واحداً قدوس هو الله وأن كل قداسة فينا هى مجرد انعكاسات لقداسته فى وجوهنا (.. وعلى هذا الرجاء وبهذه الثقة نتقدم للتناول من الأسرار المحيية .. ونخرج من الكنيسة مبررين بدم المسيح .. ولكن غير معصومين