Tarek El Mahaba October Issue | Page 4

جاهد واغصب نفسك

قداسة البابا شنودة الثالث

4
الذي يريد أن يسير في الطريق الروحي , كيف يبدأ ؟ حقا إن الحياة الروحية بمعناها السليم , هي أن الإنسان يحب الله , ويحب الخير , ويحب الملكوت السماوي , ويحب جميع الناس , ويسلك في طريق البر ونقاء القلب بكل رضا واشتياق , ويشعر أن عشرته مع الله هي ملء السعادة , وشهوة القلب . ولكن هل كل الناس يبدأون بهذا المستوي ؟ كلا بلا شك .
† هل محبة الإنسان لله قد تكون نهاية الطريق , وقمة العلاقة مع الله . وليست هي نقطة البدء , بل عمليا يبدأ الشخص بمخافة الله , كما قال الكتاب : بدء الحكمة مخافة الله . فيستيقظ إلي نفسه . وتبدأ مخافة الله تدخل إلي قلبه . فيخاف من دينونة خطاياه , ومن غضب الله , ويخاف أن يأتيه الموت وهو غير مستعد . وهذا كله يدعوه إلي أن يغير طريقه . ولكن كيف يغير طريقه ؟ يغيره بالتغصب لأن محبة الله لا تكون قد ملكت علي قلبه منذ البداية . وهكذا يكون التغصب , هو نقطة البداية العملية في الحياة الروحية .
† إنسان دخل جديدًا في الطريق الروحي . لم يتدرج بعد علي الصلاة . ولم يتعود الاستمرار فيها طويلاً‏ . وليست له المشاعر الروحية التي تساعده علي صلاة الحب والعاطفة والخشوع والتأمل . ولكنه يغصب نفسه علي الصلاة . وإن حورب بإنهائها , يغصب نفسه علي الاستمرار فيها . ففي الليل مثلا يشعر أنه متنقل بالنوم , وإنه متعب جسديًا وليست لديه قوة علي الوقوف للصلاة . وليست له رغبة في ذلك , ولكنه يغصب نفسه علي الصلاة والركوع والسجود ويغصب نفسه علي تركيز حواسه في الصلاة , ومنع ذاته من الشرود والسرحان .
قال أحد الآباء : إنك لو انتظرت إلي أن تصل إلي الصلاة الطاهرة الخاشعة النقية , ثم بعد ذلك تصلي , فإلي الأبد لا تصلي . كذلك أن الصلاة في كمالها ليست هي نقطة البدء , بل هي قمة العمل الروحي في الصلاة . إنما أنت , عليك أن تغصب نفسك علي الاستمرار في الصلاة , حتى لو كنت مثقلا بالنوم . والله ينظر إلي تعبك وجهادك وصبرك وإصرارك . ويشرق عليك بنعمته ويجذبك إلي كمال الصلاة .
† نفس الوضع نقوله بالنسبة إلي كل فضيلة من الفضائل : وقد لا تبدأ ممارسة الصوم بمحبة الصوم , ولكن تغصب نفسك علي ذلك . وقد لا يكون لك اشتياق إلي قراءة كتاب الله والتأمل في كلماته . ولكنك تغصب نفسك علي ذلك . وبالمثل تغصب نفسك علي التوبة , وعلي التسامح , وعلي دفع نصيب الله من مالك . وتغصب نفسك علي ضبط الفكر , وضبط الحواس ‏...‏ إلخ .
† ولكن لعل سائلاً‏ يسأل : هل الله يقبل الفضيلة التي تأتي بالغصب وهي خالية من الحب ؟!‏ أولا أقول لك إنها ليست خالية من الحب . ولولا الحب ما كنت تبدأ بها . ولكنه حسب مبتدئ , يقاومه عادات النفس القديمة , وتقاومه ارتباطات بالمادة والجسد . كما تقاومه محاربات الشياطين ومعطلات عديدة . والله يقبل هذا التغصب باعتباره لونًا من الجهاد الروحي ومحاولة قهر النفس . ثانيا إن الشخص قد يمارس العمل الروحي بتغصب . ولكنه بعد حين يجد لذة في هذا العمل الروحي , فيكمله في حب ويسعى إليه باشتياق قلب . وهكذا يكون التغصب هو مجرد مرحلة روحية تنتهي بالفضيلة في وضعها الكامل . † ولكن الشيطان قد يهزأ بالتغصب . ويحاول أن يتخذه وسيلة لإبطال العمل الروحي جملة . فيقول لك هل من الأدب الحديث مع الله بتغصب ؟!‏ أين الحب الذي قال عنه داود النبي للرب في صلاته : « بِاسْ‏ مِكَ‏ أَرْفَعُ‏ يَدَيَّ‏ ، كَماَ‏ مِنْ‏ شَ‏ حْمٍ‏ وَدَسَ‏ مٍ‏ تَشْ‏ بَعُ‏ نَفْسِ‏ » ( سفر المزامير
‏(..‏ 5 ، 4 : ‎63‎ وحينئذ يدعوك الشيطان أن توقف هذه الصلاة احتراما للمثاليات التي تنقصها ‏!!‏ ولكن الله يقبل صلاتك , كما يقبل الحروف التي يتلفظها الطفل بلا معني في أولي درجات الكلام حتى يصل إلي الكمال ، ويري تحركات الطفل المتعثرة , علي أنها أولي الخطوات للسير المنتظم
السريع . إنه سبحانه لا يحتقر هذا التغصب بل يشجعه كخطوات نحو نمو سليم . وبهذا لا يستمر التغصب تغصبًا , بل يكون خطوة تتحول إلي أفضل .
† مثال آخر وهو العطاء الذي نقدمه للمحتاجين : الوضع السليم أن نعطي بسرور ( رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس ‏(,‏ 7 : 9 ونعطي بسخاء ( رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية
‏(,‏ 8 : ‎12‎ فهل نوقف عطاءنا إلي أن نصل إلي هذا المستوي ؟!‏ وما ذنب الفقير أو المحتاج لعطائك , إن كنت لم تصل بعد إلي هذه الدرجة ؟!‏ إذن الوضع العملي هو أن تعطي لغيرك ولو بشيء من التغصب . ثم يتطور الأمر إلي أن تعطي كل مالك للفقراء , وأنت مسرور بذلك ‏..‏ ألست تري إذن أن التغصب هو فضيلة مرحلية لا تستمر هكذا . وفي مجال التغصب نذكر أيضا التداريب الروحية . † من فوائد التغصب : الانتصار علي العادات الخاطئة وعلي الخطيئة التي انتصرت علي الشخص زمنا وأذلته واستعبدته . ولم يكن من السهل أن يتركها . وإنما يحتاج إلي أن يغصب نفسه علي ذلك . والتغصب هو بلا شك ثورة علي تدليل النفس , أو هو حرب ضد الذات واشتياقاتها إلي رغبات معينة , أو إلي محبة الراحة والاسترخاء . ثم ألا تري أننا أحيانًا نحتاج إلي أن نغصب الأطفال في البدء الذين لم يتعودوا الفضيلة , بينما لو تركناهم حسب هواهم , لكانت النتيجة الحتمية هي ضياعهم زمانًا . وكثير من الخاطئين لم يستفيدوا بسرعة . ولم يرجعوا إلي الله حبًا . رجعوا إليه غصبًا بتجارب وآلام متنوعة . فخيرٌ‏ للإنسان إذن أن يغصب نفسه بإرادته علي عمل الخير , من أن تغصبه التجارب أو الأحداث أو العقوبات . أخيرا اجعل ضميرك هو الذي يغصبك , وليس القانون . وارتفع فوق مستوي القانون لتصل إلي محبة الخير .