ومادامت المثاليات أمامه ، فإنه لا يرضى بأنصاف الحلول ، ولا باجتياز مرحلة في الطريق والاكتفاء بها ! بل يسعى بكل نشاط ، حتى يصل إلى الغاية والى النهاية . لذلك فهو في صعود مستمر نحو الهدف .. وهذا الجاد الذي يتقدم باستمرار ، لا يخشى عليه من النكسات أو من الرجوع إلى الوراء .. إن الجدية في الحياة ، دليل على الرجولة وقوة الشخصية :
والإنسان الجاد في حياته ، هو إنسان يحترم نفسه ، ويحترم مبادئه ، ويحترم الكلمة التي تخرج من فمه ، ويحترم الطريق السليم الذي يسلكه . فهو -لهذا كله- يتميز بالثبات وعدم الزعزعة . انه كسفينة ضخمة تشق طريقها في بحر الحياة بقوة متجهة نحو غايتها .. وليست كقارب تعصف به الأمواج في أي اتجاه .. إن الإنسان غير الجاد ، يتأرجح في حياته دائما بين الصعود والهبوط . ومسيرته غير ثابتة ، سواء في أمور عمله ، أو في حياته الروحية .. فهو يسقط ويقوم ، ويداوم القيام والسقوط ، في غير استقرار !! أحيانا يكون حارًا ، وأحيانًا يكون فاترًا ، أو باردًا . في فترة يكون مهتما ، وفي أخرى يقابل الأمور بلا مبالاة !! الإنسان الجاد ، تظهر جديته في سلوكه الروحي وعلاقته مع الله :
فالجدية في السلوك الروحي ، لا تقبل الإهمال والتراخي ولا التردد ، ولا الرجوع أحيانًا إلى الوراء . ولا تقبل التأرجح بين طريقين : حياة الفضيلة وشهوة الخطية ! أو ساعة للقلب ، وساعة للرب !! كما لو كان القلب والرب في طريقين متناقضين !! الإنسان الجاد لا يتساهل في حقوق الله مطلقا . انه يأخذ حق الله من نفسه هو أولا ، قبل أن يسعى لأخذ حق الله من الآخرين . وهو يسلك في وصية الله بكل حزم وبكل دقة وبكل عمق .. وطاعته لله -تبارك اسمه- تكون بغير مناقشة وبغير مساومة .. والجدية في الحياة الروحية لا تعنى التزمت إطلاقًا ! فمن الممكن أن يسلك الإنسان بطريقة روحية في حياة الفضيلة ، وفي نفس الوقت يكون بشوشً ا ، ومرحًا في وقار ... أما التزمت فهو لون من التطرف . والتطرف ضد الروحانية والجدية .. والإنسان الجاد الروحي ، لا يقدم تبريرات للسقوط في الخطية !!
16
الجدية والتدقيق
الجدية هي الميزة الأولى التي تميز الناجحين والمتفوقين عن غيرهم فعظماء الرجال الذين سجل التاريخ أسماءهم ، هم أولئك الذين كان لهم خط واضح رسموه لحياتهم ، وساروا فيه بقلب ثابت لا يتزعزع ، ولم ينحرفوا عنه يمينًا ولا يسارًا ، وكانت لهم مبادئ ثابتة لا يحيدون عنها . كما أنهم لم يسمحوا مطلقا لأية ظروف أن تعوقهم .
وأيضً ا طلاب العلم الذين نبغوا ، وكانوا الأوائل بين زملائهم ، هم الذين عكفوا على دراساتهم بكل جدية . وأيضً ا العامل الناجح هو الذي يؤدى عمله بجدية . بل حتى اللاعب الناجح هو اللاعب الذي يكون جادًا في لعبه ، لا يتهاون أو يتكاسل فيه .. والإنسان الجاد هو جاد في كل شيء .. هو جاد في وعوده ، وفي مواعيده . لا يعد أحدا بوعد ويرجع فيه مهما كانت الأسباب . ولا يحدد لأحد ميعادا ويغيب أو يتأخر عنه ملتمسً ا لنفسه الأعذار ! والإنسان الجاد إذا نذر نذرًا ، لا يعاود التفكير فيه أو المساومة ولا يؤجل الوفاء بنذره ، ولا يحاول استبداله بغيره ، ولا يماطل . إنما بكل سرعة ، وبكل جدية ، ينفذ نذره كما هو . واضعًا أمامه القاعدة الذهبية التي تقول « خير لك أن لا تنذر ، من أن تنذر ولا تفي » لهذا فكل وعوده ونذوره ، تكون موضع ثقة . والإنسان الجاد يهدف إلى الكمال . لذلك فهو ينمو باستمرار .. الجدية تمنحه حرارة روحية . والحرارة تدفعه كل حين إلى قدام .. وإذ يتمسك -في كل ما يعمل- بأعلى درجة يمكنه الوصول إليها ، لهذا فإنه بكل مثابرة واجتهاد ، يمنح مسئولياته كل قوته وكل إمكانياته ، وكل إرادته وكل قلبه .. ويعمل بكل النعمة المعطاة له ، ولا يقصر في شيء إنما يبذل كل طاقاته .. ولذلك فهو لا يحتاج كثيرا إلى من يدفعه في الطريق ، فالدفع المستمر يأتيه من الداخل . والإنسان الجاد لا يدلل نفسه ولا يحابيها . ولا يعذرها في أي تقصير . وإن توانت نفسه يومًا ، يغصبها على العمل وعلى التقدم ، حتى تتعود ذلك وتؤديه في تلقائية . والإنسان الجاد ، إذا صادفته صعاب ، ينتصر عليها ، ولا يعتذر بها .. إنه لا يستسلم لعقبة ، بل يكافح ساعيًا إلى المثاليات ، مُصرِ ًا على النجاح في طريقه مهما كانت العقبات أمامه . وهو ينجح في كفاحه ، طالما كان حارا في الروح ، لا يفتر ولا يضعف ..
فالفضيلة واجبة ، مهما كانت الظروف الخارجية ضاغطة .. ومثال ذلك يوسف الصديق العفيف : كانت الظروف من الخارج تضغط عليه ، ولكنه لم يخضع لها ، ولم يتساهل مع الخطيئة ، بحجة أنه وقتذاك كان عبدا ، وتحت سلطان غيره ، وبإمكان سيدته أن تؤذيه ..
ولكن الخير الذي كان في قلبه ، كان أقوى من الخطيئة التي تغريه ، وكان أقوى من الضغوط الخارجية . وكان يوسف جادا في حفظ نفسه طاهرًا .. إذن يجب أن يكون الإنسان جادا في حياة التوبة : فيقاوم الخطيئة بكل جدية ، إذا ما حورب بها . وان سقط ، يكون جادا في توبته ولا يؤجلها . وان تاب وترك الخطيئة ، يتركها بجدية ، ولا يعود إليها مرة أخرى . وليضع أمامه قول ذلك الأب الروحي : « لا أتذكر أن الشياطين قد أطغوني مرتين في خطية واحدة «.
فقد يكون السقوط عن جهل أو ضعف . ولكن متى أدرك التائب الجاد ذلك ، يحرص إلا يقع في نفس الخطأ مرة أخرى . بل تكون التوبة نقطة تحول كامل في سلوكه بغير عودة فهو يغلق أبواب فكره وقلبه أمام الخطية غلقًا تامًا ، بعزيمة قوية وإصرار شديد على حياة البر ، ويكون جادا في تداريبه الروحية لا يكسرها مهما كانت الأسباب ، ويحفظ تعهداته أمام الله في جدية .
على أن الشيطان أو أعوانه ، الذين يحاربون الإنسان في جدية الحياة الروحية ، قد يغرونه بما يسمونه المرونة في سلوكه !! لكن المرونة لا تكون أبدًا بالخروج عن القيم الروحية . إنما المرونة بمعناها الحقيقي تكون في داخل القيم وليس خارجها ..
وليست المرونة مطلقا في عدم الالتزام ، بل يكون الإنسان مرنا مع الالتزام بحياة الفضيلة والبر . والجدية تلزم الإنسان أيضً ا على حياة التدقيق . من مظاهر الجدية , التدقيق في كل شيء . والإنسان الجاد في حياته ، يحرص أن يكون مدققا في كل تصرفاته ، وفي كل كلمة يقولها ، وكل فكر . ويكون مدققا من جهة حواسه ومشاعره ، ومن جهة مواعيده ووقته . وبالاختصار في كل علاقاته مع الله والناس ، ومع نفسه . ويتدرب على ذلك ، حتى يصبح التدقيق جزءًا من طبعه .. وبعد يا قارئي العزيز ، ألست ترى أن موضوع التدقيق يلزم له مقال خاص ؟ إني أرى ذلك أيضً ا . فإلى اللقاء .