Tarek El Mahaba 2018 | Page 17

تاملات اصدقاء المجله هذا الشهر

‎17‎
يروي أحد كهنة الإسكندرية ( أبونا اوقا سيداروس ) القصة الحقيقية التالية : -
سيدة فاضلة ‏...‏ تحيا هي وزوجها وأولادها حياة مسيحية ‏...‏ جاءتني يوما باكية تقول : لي جارة غير مسيحية وهي مريضة مرض الموت ، عندها سرطان وهي الآن في أيامها الأخيرة ‏...‏ قلت لها مراحم الله واسعة وجسد الانسان ضعيف ‏...‏ قالت لي : ولكنها تود أن تراك ‏!!!‏ قلت لها : من قال لك هذا ؟؟؟ قالت : هي طلبت مني ذلك ‏...‏ قلت : وهل تعرفني ؟ قالت : نعم ‏...‏ قلت : كيف ؟ قالت : لا أعلم ‏...‏ ولكنها تعرفك بالإسم ‏...‏ قلت : لو تثنى لي وقت أزورها ‏...‏ ومضى أسبوع وكنت في مشغوليات كثيرة ‏...‏ قابلتني السيدة الفاضلة مرة أخرى تتوسل إليّ‏ ‏...‏ لماذا لم تحضر ؟؟؟ المريضة منتظرة بفارغ الصبر ‏...‏ وحالتها إل أسوا ‏...‏ قلت لها : ماذا أصنع لها ؟ أشعر أني مكتوف الأيدي ‏...‏ كيف أزور بيت غير مسيحي ؟!!!‏ ولماذا لم يحضر زوجها ليدعوني إل بيته ؟؟؟ قالت السيدة : إن زوجها يعمل مدير قطاع في المحلة الكبرى ‏...‏ وهو معظم الوقت خارج الاسكندرية ‏...‏ وهذه الأيام يحضر كل كام يوم ‏...‏ ظروفه صعبة وهي ظروفها أصعب ‏...‏ وعلى أي حال ‏...‏ كانت تكلمني على زيارتك وزوجها حاضر ولم يبد أي إعتراض ‏...‏ بل قال ‏...‏ أهلا وسهلا في أي وقت ‏!!!‏
إضطررت تحت إلحاح هذه الأخت أن أذهب معها لزيارة جارتها ‏...‏ دخلنا المنزل وفتحت هذه الأخت باب شقة المريضة ‏...‏ إذ أعطتها المفتاح لأنها ملازمة الفراش ‏...‏ ولا تقدر أن تفتح لأحد ‏...‏ ما إن دخلنا ‏...‏ حتى صدمت برائحة كريهة تنبعث من داخل الشقة ‏...‏ شيء لا يطاق ‏...‏ تحاملت على نفسي ودخلت إل الغرفة حيث كانت السيدة المريضة ‏...‏ كانت سيدة في الخمسينيات من عمرها ‏...‏ ورغم أنها طريحة الفراش ومريضة مرض الموت ‏...‏ إلا أنها تبدو جميلة المنظر ‏...‏ وقد علمت أنها أجريت لها منذ سنة عملية استئصال الثديين ‏...‏ وأنها عولجت بالأشعة ‏...‏ فإحترق جلدها ‏...‏ وأن رائحة النتن التي تملأ البيت تنبعث من جراحاتها المتقيحة ‏...‏ وأنهم مهما سكبوا من روائح طيبة في المنزل أو على فراشها فإن الرائحة النتنة تطغي ‏...‏ شيء مؤلم للغاية ‏!!!‏
جلست على كرسي إل جوار فراش المريضة ‏...‏ سلمت عليها ‏...‏ أخذت يدي تقبلها ‏...‏ وعيناها تدمع ‏...‏ تأثرت في نفسي ورحت أكلمها عن مراحم الله ‏...‏ وأن ما يسمح به الله في حياة الناس
من أمراض لابد أنه لخير الإنسان ‏...‏ وأن القديسين تألموا وصبروا على الآلام ‏...‏ وتكلمت عن تجربة أيوب الصديق في كلمات قليلة ‏...‏ وهي تنصت دون تعليق ‏...‏ فلا مجال لكثرة الكلام فهي في مرحلة متأخرة ‏...‏ ولكنها بكامل وعيها وإنتباهها ‏...‏
إنتظرت السيدة المريضة حتى إنتهيت من كلامي ‏...‏ ثم إستأذنت الأخت المسيحية وبنتها اللتان كانتا واقفتين قائلة : ممكن تتركوني مع أبونا لوحدي لمدة خمس دقائق ؟ ‏...‏ استجابت السيدتان في الحال وخرجتا إل خارج الغرفة ‏...‏
أدارت السيدة وجهها نحوي ونظرت إليّ‏ نظرة عميقة ‏...‏ ثم إنفجرت في بكاء ومرارة لم أر في حياتي إنسانا ينحصر في الحزن وهو في شدة المرض مثلما رأيت في هذه السيدة ‏...‏ كاد قلبي ينفطر وأنا أرى منظرها المؤلم ‏...‏ لم يكن أمامي شيء أفعله ‏...‏ فأنا لا أعرف سبب بكاءها هذا ‏....‏ حاولت أن أهدئها بكلمات تعزية وهي تشهق بالبكاء ‏...‏ وبالكاد نجحت أن أسكتها وقلت لها تكلمي بدون بكاء حتى أفهم وأعرف كيف أجيبك ‏...‏ تمالكت المسكينة نفسها وقالت : يا أبي أنا مسيحية ‏...‏ وقعت هذه الكلمات على نفسي كالصاعقة ‏...‏ ولكني أطرقت بصري إل الأرض وقلت : نعم ‏...‏ قالت : أنا أخت الدكتور فلان ( وهذا الدكتور أنا أعرفه من القاهرة ) ‏...‏ كان عمري ‎16‎ سنة ‏...‏ زوجني والدي لرجل لبناني ثري جدا يبلغ الخمسين من عمره ‏...‏ وكنت وقتذاك فتاة صغيرة جميلة ‏...‏ ولم تكن لي خبرة في الحياة ‏...‏ وكان هذا الزواج غير موفق على الاطلاق ‏...‏ بسبب الفوارق غير العادية في كل شيء والتفت حولي بعض صديقات السوء ‏...‏ شجعنني على ترك بيتي ‏...‏ وهكذا إل أن تزوجت بزوجي المسلم هذا ‏...‏ فعلت كل شيء في عدم إدراك ‏...‏ وكان هذا منذ أكثر من ثلاثين سنة ‏...‏ ولكن عادت تبكي بمرارة وتقول : لم يغب شخص يسوع عن نظري وقلبي وحياتي ولم يغب صليبه عن ذهني ‏...‏ صدقني يا أبي ‏...‏ ولا يوم واحد من أيام حياتي ‏!!!‏
أنجبت ولدين ‏...‏ عمدتهما سرا وكنت أعلمهما منذ نعومة أظفارهما الحياة بالمسيح والإيمان به ‏...‏ وكبرا وتعلما ‏...‏ وهما الآن بالخارج يعيشان حياة مسيحية فاضلة ‏...‏
وها أنا كما تراني طريحة الفراش وسوف يسلمني المرض للموت ‏...‏ وكما ترى يا أبي ها أنا أنتن وأنا بعد حية ‏...‏ يا ويحي يا
شقاوتي ‏...‏ أنا أستحق أكثر من هذا ‏...‏ أنا أنكرت إيماني ‏...‏ أنا جحدت مسيحي ‏...‏
والحق يقال أنني في تلك اللحظات القليلة أصبحت أمام قصة توبة فريدة من نوعها ‏...‏ فهذا هو الهزيع الأخير ‏...‏ ولكن إلهنا يخلص ‏...‏ ويحيي من الموت ما قد هلك ‏...‏ عادت السيدة تسألني بنفس كسيرة : هل بعد كل هذا يوجد رجاء ؟؟؟ ‏!!!‏ سرت في نفسي قشعريرة رهيبة ‏...‏ وإنبرى لساني ينطق بكلمات رجاء وقوة لم أنطقها في حياتي ‏...‏ تخيلت شخص المسيح مخلصنا الصالح وهو يفتدي غنمة صغيرة من فم الأسد ‏...‏ كاد يبتلعها ‏...‏ بل قد مضى زمان الافتقاد وها هي على حافة الهاوية ‏...‏ ولكن مبارك الله الذي ينجي نفسي من الموت وعيني من الدموع ورجلي من الزلل ‏...‏ قلت إن مخلص اللص اليمين قائم وحاضر وقادر ‏...‏ ومبرر الفاجر قائم من الأموات ‏...‏ وأن خطايانا مهما تعاظمت لا تقوى على الوجود إن نحن إلتجأنا بإيمان وتوبة للقادر أن يخلص إل التمام ‏...‏ وبمثل هذا الكلام كنت أعزيها ‏...‏
أشق وجهها بنور رجاء ‏...‏ وكانت عيناها تسح دموعا كالنهر ‏...‏ ولكن وجهها كان مرتاحا وملامحها تغيرت كمن أشقت عليها الشمس ‏!!!‏ قالت متسائلة بنبرة عجيبة ‏...‏ أنا أثق في كل كلمة قلتها لي أن الرب يقبلني ‏...‏ فهل تناولني ما حرمت منه أكثر من ثلاثين سنة ؟؟؟ قلت لها : بكل تأكيد قالت : ضع صليبك عليّ‏ وحاللني ‏...‏ وقفت لأصلي التحليل ‏...‏ ولم أتمالك نفسي من البكاء ‏...‏ وإنصرفت على أن أعود إليها في الغد لكي أناولها ‏...‏
أسرعت إل أبينا بيشوي كامل ‏...‏ أخبرته بكل شيء ‏...‏ ملك علينا التأثر ‏...‏ وأخبرته عما فعلت وعما وعدتها به من أجل التناول ‏...‏ قال لي أبونا بيشوي : دعنا نصلي لكي يمد الله في أجلها إل الغد حتى تتناول فتتعزى نفسها وترقد على الرجاء ‏...‏ وقد كان ‏...‏ صليت قداسا في الصباح الباكر وذهبت مع الأخت المسيحية وهي منذهلة مما يحدث ‏...‏ وألف سؤال يدور في رأسها ‏...‏ دخلنا إل السيدة ‏...‏ شكرتُ‏ المسيح إذ وجدتها منتظرة متيقظة ‏...‏ عندما دخلت حجرتها أغمضت عينيها ‏...‏ وبكل ما ملكت من قوة قالت : مبارك الآتي باسم الرب ‏...‏ صليت وناولتها ‏...‏ ولم أر في حياتي هذا الفرح في أحد يتناول ‏...‏ لا أنسى هذا اليوم ما حييت ‏...‏ وكأن هذه الساعة لم تكن من ساعات هذا العالم ‏...‏ بل هي حقا يوم من أيام السماء على الأرض ‏...‏ وكان فرح في السماء ‏...‏ فما هي إلا ساعات قليلة وإنطلقت هذه النفس إل الذي أحبها ‏...‏ وخلصها في الهزيع الأخير ‏...‏